الضوابط الأخلاقية في مهنة الصحافة وصناعة المحتوى: حدود التقاطع بينهما

0 118

تلاشت الحدود وازدادت الضبابية بين الصحافة التقليدية وصناعة المحتوى، مما استدعى إعادة رسم خارطة طريقة أخلاقية للعمل الإعلامي. ومع استخدام الصحفيين لأدوات المؤثرين وأساليبهم، واقتحام المؤثرين لعالم الصحافة، هنا يبرز تساؤل مهم: كيف يمكن الحفاظ على القيم الأساسية للصحافة في هذا الفضاء الرقمي المتغير والسريع؟

وقد ناقش الصحفيون الذين تحولوا إلى صُنّاع المحتوى التحديات اليومية التي يواجهها المبتكرون في مجال الإعلام، خاصة عند محاولتهم إيصال المعلومات الموثوقة إلى الجمهور الشاب، الذي لم يعد يعتمد على الوسائل الإعلامية التقليدية، وذلك في مهرجان الصحافة الدولي لعام 2025 في بيروجيا بإيطاليا. وبالنسبة لهؤلاء، فإن دخول هذا المجال يعني التشكيك في المسلّمات القديمة ووضع مبادئ إرشادية جديدة تقوم على الشفافية والدقة.

إعطاء الأولوية لمعيار الدقة على المسميات

وفي ظل التحولات الاقتصادية التي يشهدها مجال صناعة المحتوى، لم تعد الألقاب التقليدية تحظى بالاهتمام ذاته لدى الجمهور، إذ بات التركيز مُوجهًا نحو جودة العمل ومضمونه أكثر من المسميات. وفي مهرجان بيروجيا، بدأت جلسة “أخلاقيات الصحافة في عصر النماذج الاقتصادية لصناعة المحتوى” بمناقشة العلاقة المتوترة أحيانًا بين مصطلحي “الصحفي” و”المؤثر”.

من ناحيتها، عارضت سروثي غوتيباتي، التي تعمل على تأسيس منصة SpotOn الإخبارية الناشئة الموجهة لجيل Z، ويديرها صُناع المحتوى، التركيز على المسميات، وقالت: “لا أعتقد أن الناس يهتمون كثيرًا بالتصنيفات”، مضيفةً: “استخدم كلمتي “مؤثر” و”مبدع” بشكل متبادل. الأهم هو نوع العمل الذي تُقدّمه، والذي يتسم بالدقة التي تدربنا عليها”.

وأضافت غوتيباتي بأن القيم الصحفية الأساسية مثل المساءلة، والشفافية، والصدق، والعدالة تظل الركيزة الأساسية بغض النظر عن الطريقة التي يختارها صُنّاع المحتوى لتعريف أنفسهم. والأساس برأيها يكمن في دمج هذه المبادئ في المحتوى. وتسعى منصة SpotOn إلى “إبراز القيمة التي يجلبها الصحفيون”، وذلك من خلال تدريبهم ليصبحوا صُنّاع محتوى مبدعين، وأيضًا منح الفرصة لصُناع المحتوى المهتمين بإعداد التقارير الجادة وتزويدهم بالأدوات اللازمة للعمل الصحفي.

إعادة تقييم الموضوعية

وقد شهد المفهوم التقليدي للموضوعية عدة تحوّلات واضحة. وقد ناقش المشاركون في الجلسة فكرة الموضوعية الصحفية، مشيرين إلى أن النقاش حول هذا المفهوم قد تطوّر مع الزمن.

وأوضحت كاسي تشو، التي تدير منصة Almost التي تركز على الأخبار العالمية المُوجهة للشباب، أنهم قرروا التخلي عن الحياد الصارم، خاصة عند تغطية قضايا تتضمن اختلالات واضحة في موازين القوى. وقالت: “إنّ مهنة الصحافة تقوم على مساءلة الآخرين، وأحيانًا عندما تكون محايدًا وتدعم المنصة كلا الجانبين، فقد يؤدي ذلك إلى نشر روايات ضارة”، مُستشهدةً بأمثلة للتقارير الصحفية المتعلقة بالتغير المناخي وتغطية حرب غزة. وأضافت قائلةً: “اتخذنا قرارًا تحريريًا في منصة Almost بوصف الحرب على غزة بأنها إبادة في تغطيتنا الصحفية، لأن هذه هي الحقيقة التي شاهدناها. الوضوح الأخلاقي ليس أمرًا ضارًا، لكن الحياد أحيانًا يعني الصمت والتواطؤ”.

من ناحيتها، قالت ساني بريمر، مُؤسسة منصة Inclusive Journalism، إن الموضوعية الحقيقية مجرد وهم. وأضافت قائلةً: الاعتقاد بأنني وُلدت كإنسان موضوعي ليس “صحيحًا”، مشيرةً إلى أهمية مفهوم “التموضع”، أي إدراك كيفية تأثير خلفية الشخص على تشكيل وجهة نظره.

كما أن الاعتراف بأن أي صحفي ليس صفحة بيضاء تمامًا — فلكل شخص خلفيته ووجهة نظره الخاصة، يساعد في بناء علاقة أكثر صدقًا مع الجمهور. وهذا يحول التركيز من موضوعية مثالية يصعب بلوغها، إلى تحقيق أهداف ممكنة مثل الحياد، والإنصاف، والدقة، والشفافية في أسلوب العمل.

تحقيق ربح مادي قائم على النزاهة

وتشمل الاعتبارات الأخلاقية أيضًا آليات تمويل هذا الشكل الجديد من الصحافة، حيث تصبح الشفافية أمرًا ضروريًا لا غنى عنها. وقد نفت غوتيباتي الفكرة الشائعة بأن الجمهور لا يحب المحتوى المموّل. ووفقًا لخبرتها، فإنّ الجمهور ذكي، ويكره التضليل بدرجة أكبر من رفضه للمحتوى الدعائي ذي التصنيف الواضح والمتوافق مع القيم. وقالت: “ما لا يحبّه الناس هو أن يتم خداعهم”.

تُقدّم منصة Almost التي تديرها تشو نموذجًا بديلًا، إذ تموّل عملها الصحفي من خلال استوديو يُنتج محتوى للمنظمات غير الربحية التي تتماشى قيمها مع نهج المنصة، ويساعدها في حملاتها الإعلامية. وأوضحت تشو قائلةً: “لا نرى في الحقيقة تعارضًا بين الصحافة والنشاط الحقوقي، لأن الصحافة في جوهرها تتعلق بقول الحقيقة في وجه السلطة”.

  البناء على أرض مستعارة

إنّ أكثر صُنّاع المحتوى التزامًا بالأخلاقيات يعملون داخل أنظمة لا يملكون السيطرة عليها، كما أن الاعتماد على منصات مثل تيك توك، إنستجرام، أو إكس يجعلهم عرضة للمخاطر باستمرار. وقد شاركت تشو تجربتها مع الحظر المتكرر لحساب منصة Almost على تيك توك بسبب محتوى تراه المنصة مخالفًا وفقًا لقواعدها غير الواضحة، وذلك بسبب تغطية أحداث غزة وسوريا على الرغم من التزامهم بالمعايير الصحفية. وكل حظر كان يعني فقدانًا مفاجئًا لقنوات التواصل المهمة مع الجمهور التي تم بناؤها بعناية على المنصة.

وقد نصحت بريمر صُنّاع المحتوى بعدم الاعتماد الكامل على المنصات. وقالت: “كونوا أذكياء في استراتيجيتكم، واجمعوا عناوين البريد الإلكتروني لأنها الشيء الوحيد الذي لا يُمكن انتزاعه منكم”، كما دعت إلى التضامن، بقولها: “أتمنى أن أرى المزيد من التغطية الصحفية لما يتعرض له الصحفيون من مخاطر على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك بهدف الدفاع عن مهنة الصحافة أينما وجدت”.

التعلُّم من صُناع المحتوى المبدعين: دروس مهمة لوسائل الإعلام التقليدية

هناك الكثير من الدروس التي يمكن لوسائل الإعلام التقليدية أن تتعلمها من مجال صناعة المحتوى، وخصوصًا فيما يتعلق بالتفاعل مع الجمهور والشفافية. وفي هذا الإطار أشارت تشو إلى أن الجمهور الشاب غالبًا ما يلجأ إلى متابعة صُناع المحتوى المبدعين لأنهم يشعرون أن الإعلام التقليدي “يميل إلى خدمة السلطة، لا الحقيقة”.

واختتمت بريمر حديثها بالتأكيد على أن التهديد الأكبر الذي يواجه وسائل الإعلام التقليدية لا يأتي من الاضطرابات الخارجية، بل من مقاومتها الداخلية للتغيير. وأوضحت أن “أكبر تهديد للإعلام التقليدي هو الإعلام التقليدي نفسه”، داعية المؤسسات الراسخة إلى الانفتاح على النقد الذاتي والتعلُّم من صُناع المحتوى المستقلين”، وأضافت قائلةً: “تقبلوا وجود صحفيين يُقدّمون أفكارًا جديدة ويعملون على منصات قد لا تعرفونها جيدًا، لكن يمكنكم التعلُم منها”.

شبكة الصحفيين الدوليين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.