إعلام النكوص

0 42

*آلان حسن

لطالما كانَ الإعلامُ الغائبَ الأبرزَ عن المشهدِ السياسيّ في سوريا منذُ عقودِ حكمِ حزبِ البعثِ العربيّ الاشتراكيّ الذي بدأ العام 1963، ولَمْ تؤدِّ “السلطة الرابعة” أيّاً من مهامها الأساسيّة، كتثقيف المجتمع، وتسليط الضوء على مكامن الخطأ في المؤسسات الرسميّة، أو نشر ملّفات الفساد التي استشرت في كلّ شرايين الدولة.

لكنْ وبعد الحرب السوريّة الممتدة منذ عام 2011 فقد تبدّل الحالُ كلّه، أصبحنا في حِلٍّ من حالة التغييب تلك، ودخلنا في مرحلةٍ أخطر؛ ألا وهي تسطيحُ المجتمع من خلال الإعلام.

مرحلةٌ أصبح الإعلام فيها وسيلةً لتمريرِ جرائمَ بحقِّ المجتمع كَكُلّ، أفراداً وجماعات، وباتَ الصحفيون أداةّ سهلةً طيّعةً في يَدِ تجار الحروب، في الوقت الذي من المفترض أنْ يكونوا في الصف المقابل من هؤلاء.

يقول الفيلسوف، وعالم الاجتماع الألماني هابرماس، والذي يُعتبر أول من نَحَتَ مفهوم “المجال العام” أنّه: “بعد انتشار وسائل الإعلام الجماهيريّة أوشك النقاش الديمقراطيّ على الاختناق، وأصبحَ الإعلامُ يقومُ بدورِ صناعةِ الرأيِ العامّ عن طريق الاستمالة والتلاعب والسيطرة المفروضة عليه، فغدا النقاش العقلانيّ المفتوح مهيمَنٌ عليه ورهينٌ بالمصالح التجاريّة والاقتصاديّة بالدرجة الأولى”

وهذا ما يحصل بالضبط في الإعلام السوريّ عامّة، والكُرديّ بشكلٍ خاصّ؛ فما مِن قضايا ذات شأن تُطْرَح على طاولة النقاش، ويبدو المشهد الإعلاميّ كلوحةٍ باهتةٍ في خِضَمِّ بحرٍ من القضايا الشائكة التي توثّرُ على مستقبل الشعب الذي لا يعرف عن مصيره شيئاً.

أشباهُ صحفيين، وكَتَبةُ تقاريرَ كيديّة، تسلّقوا العمل الإعلاميّ، وأصبحوا يتصدرون المشهدَ بِرُمَّتِه، وبمساندةٍ مُريبةٍ من سلطاتِ الإدارةِ الذاتية الحاكمة في المنطقة منذ مطلع العام 2014، التي تُدير بعضها جَهراً، وتدعمُ أكثرها سِرّاً.

باتَ من المألوفِ رؤيةُ تقريرٍ مصوّر لإحدى القنوات العربيّة المصنّفة في قاع الإعلام الإخباريّ، مليئاً بالأغلاط اللغويّة الساذجة، ويقدّم فيه المُعِدّ صورةً سرياليّةً عن الواقع، صورةٌ أقلّ ما يُقالُ عنها أنّها تُسَخِّفُ المجتمع، وتُظهرهُ بعيداً عن كلّ ما يَمُسُّ رَكْب الحضارة.

وإذا كان من المتوقع أنْ تحاولَ بعضُ القنوات، خَلِق هذه الصورة، لغايات تخصّها، فالغريب أنّ السلطات المحليّة تشاركُ في استكمال هذه الجريمة، بَلْ وتُقدّمُ كافة أنواع الدعم لهكذا نماذج، في الوقت الذي تُضَيّقُ الخناقَ على قِلّة الصحفيين المهنيين، والذين يجهدون -بما أوتوا من عزم- لإيصال الصورة الحقيقيّة من داخل المنطقة.

ونرى أيضاً موادَّ صحفيّة منشورة، غير مدرجةٍ على لائحة الأجناس الصحفيّة المتعارف عليها، ولا يمكن تقييمها سوى بالدرجات التي ما دون الصفر، فلا غرابة الآن أنْ نَجِدَ رئيسَ تحريرَ وسيلةٍ إعلاميّة غير متمكنٍ من صياغةِ خبرٍ صحفيّ، دوناً عن التقارير والتحقيقات، والتي من المتوقع ألا يستطيع التفريق بينهما.

عشرات وسائل الإعلام وجدتْ حالة الفوضى القائمة طريقاً سهلاً لها للانتشار، ولم تَستطع سوى القِلّة منها إيجاد موطأ قَدَم لها في الخارطة الإعلاميّة القائمة، أما الأكثرية منها فقد اختارت الطريق الأسهل؛ التعويل على الحالة الغرائزيّة في المجتمع، وتقديم محتوى يخاطب الرغبات الدنيا للناس، وعدم التطرُّق للهموم الكبيرة، في انسجام تامّ مع رغبات السلطة، بل بتواطؤٍ واضح معها أحياناً، وبتوجيه منها في أحيانَ أخرى كثيرة.

ولعل ظاهرة إعلام الأعلام قد فَرضت نفسها بقوة في الآونة الأخيرة، في ترجمة لإعلام هدّام لن يفيد حتى أصحابها، حيث بِتْنا نرى وسائلَ إعلامٍ مطوّبة باسم رجال أعمال، أو نافذين في السلطة، أو الاثنين معاً، ولم يشفع لها العزف على وتر الاستقلاليّة الإداريّة أو التحريريّة، أو إجراءِ حواراتٍ مع مخالفي أولياء نعمتهم من الممولين، فسرعان ما يُكْشَفُ ما كان مستوراً، ويكون المحتوى خيرُ دليلٍ على تبعيّةٍ تكادُ تكونُ أكثرَ فجاجة من وسائل إعلام الأحزاب.

يضطرُ القيّمين على تلك الوسائل أنْ يتحملّوا لظى إهانات الممولين المتكررة، مقابل الحصول على يسيرٍ من المال، لا لشيء، سوى أنهم قَبِلوا أنْ يعيشوا على موائد السلطة، التي لا تَنْفَكُّ في إهانة هكذا نماذج.

غيابٌ شبه تامّ للصحافة الاستقصائيّة، والتي من المفترض أنْ تكون مرآة المجتمع لتعكس واقعه، وتبيّنَ الخلل الكامن داخله، وبالتالي تمهد الطريق لإصلاحه.

حالة التفريخ القائمة في الإعلام الرديء هذا، لا يَشي بتبدّل المشهد القاتم القائم، فأعدادُ هؤلاء في اضطرادٍ مهول، وَهُم الآن الأكثريّة التي تمنع أيّ عمليةِ تطورٍ داخل جسم الاتحادات الإعلاميّة القائمة، فتغيير مادة في قانون الإعلام مثلاً يحتاج إلى رضا هذه الأكثرية، والتي لا تسعى إلا إلى زيادة الأغلال في رقاب الصحافة والصحفيين.

استسهال العمل الإعلاميّ يُنْذِر بمشاكلَ جَمّة في المستقبل، فلا يبدو القيّمين على الإعلام في المنطقة حريصون على ضبط ما يحصل من مآسٍ، فالمقابل المادي التي تدفعها الوسائل الإعلاميّة جرّاء ترخيصها هو ما يهمّها بالدرجة الأولى.

أما ما يقدم من محتوى فيبدو أنّه غير ذي أهمية لهم، وبالتالي فلا ضَيْرَ في تقديم الدعم الإعلاميّ لمراسلِ وسيلةٍ إعلاميّةٍ ما، يجهد لإظهار الصورة الأسوأ من داخل المجتمع، بقصد أو بجهل، أو آخر يعرّض حياة مقاتلين للخطر في سبيل نشر صورة من داخل جبهات القتال، ولا تنتهي المشكلة ببائعي المقاطع المصورة، والذين يصحّ تسميتهم ببائعي الدمّ.

يجب تضافر جهود السلطة والاتحادات الصحفيّة، والصحفيين الجيدين أنفسهم، للقيام بخطوات من شأنها تغيير الوضع الراهن، كإقامة ملتقيات إعلاميّة، وزيادة الدورات الإعلاميّة النوعيّة، بالإضافة إلى إلزام الوسائل الإعلاميّة بالعمل وفق أنظمة داخليّة واضحة، تضمن حقوقها هي، والصحفيين في نفس الوقت، وعلى الاتحادات والنقابات الصحفيّة مسؤولية تقييم الوضع الإعلامي بشكلٍ دوريّ، والإشارة إلى مكامن الخطأ.

أمّا السلطة فعليها واجب وضع قانون إعلامٍ عصريّ، يسعى فيه للوصول إلى إعلام بنّاء، كما يضمن للصحفي حق الحصول على المعلومة، وممارسة عمله بحريّة، دون أنْ يعرضّه ذلك لأي مساءلة، أو تضييق من الحكومة أو المتنفذين فيها.

هذه الخطوات وغيرها كفيلة بإنهاء الحالة القائمة، مرّة وللأبد.

 

 

*كاتبّ كردي سوريّ

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.